قوة الخدمة – لقداسة البابا شنودة الثالث

إن قوة الخدمة تكمن في عمق تأثيرها، وليس في كثرة المخدومين

ليس المهم عدد السامعين، بل عدد التائبين منهم.

نعم، قوة الخدمة ليست في عدد التلاميذ، إنما في عمق الإيمان الذي فيهم.. إن العظة قد يسمعها عدد كبير من الناس. ولكننا لا ندري كم هم الذين تأثروا بها، وكم هم الذين حولوا هذا التأثير إلي حياة. وتحسب قوة العظة بمقدار الذين حولتهم إلي الحياة مع الله. واجتماع الخدام لا تحسب قوته بعدد المحاضرات أو الخدام الحاضرين.

إنما قوة اجتماع الخدام هي في عدد ما ينتجه من المكرسين.

والكنيسة التي لا تقدم مكرسين للخدمة، أو للكهنوت أو للرهبنة، بلا شك خدمتها ضعيفة. لأن الخدمة القوية هي خدمة ولود.. وهناك ملاحظة، وهي أن الخدمة قد لا تاتي بنتيجة سريعة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

و لكنها لابد أن تأتي بنتيجة، ولو بعد حين..

القديس بولس الرسول بكل عظمته الروحية، وبكل قوته في الخدمة: لما تكلم في أثينا عاصمة اليونان استهزأوا به، وتهكموا عليه قائلين ” ماذا يريد هذا المهزار أن يقول؟! (أع 17: 18).. ولم يخرج بنتيجة إلا بشخص واحد هو ديونسيوس الأريوباغي الذي صار أسقفًا لأثينا فيما بعد.. ولكن ما لبثت أثينا أن صارت كلها مسيحية بعد حين. السيد المسيح كانت له خدمة عامة وسط الجموع والآلاف. وكانت له أيضًا خدمة وسط سبعين رسولًا.

و لكن كانت هناك خدمة مركزة وسط الاثني عشر. وهذه ظهرت قوتها العظيمة في نشر الإيمان.

هؤلاء الذين لا قول لهم ولا كلام، إلى أقصي المسكونة بلغت أقوالهم (مز 19). وعلي أيديهم كان ملكوت الله قد أتى بقوة.. ومعهم أيضًا كانتالقوة التي عمل بها القديس بولس بحسب النعمة الممنوحة له. هذا الذي قال قد تعبت أكثر من جميعهم. ولكن ليس أنا، بل نعمة الله العاملة معي (1 كو 15: 10). أتذكر إنني حينما كنت طالبًا في الكلية الإكليريكية، وكانت دفعتنا خمسة طلبة، أن وقف أحد الأساتذة في حفل التخرج وقال:

نحن لا ندرس خمسة طلبة في الكلية، وإنما خمس مدن.

كان يعتبر كل طالب منا مدينة، أي أنه بعد التخرج سيتكرس خادمًا للرب يتولي رعاية إحدى المدن. وللأسف لم يتكرس من دفعتنا سوي طالب واحد.. نعود إلي خدمة الآباء الرسل فنقول إن خدمتهم لم تكن تقاس بعدد الذين يسمعونهم، وإنما يقول الكتاب في ذلك:

” وكان الرب في كل يوم يضم للكنيسة الذين يخلصون (أع 2: 47).

نعم، الذين يخلصون، وليس كل الذين يسمعون.. هنا قوة الكلمة التي تفتح الطريق إلي الخلاص.. وهكذا عندما توليت مسئوليتي الحاضرة، بدأت بتقسيم الإيبارشيات لكي يكون كل أسقف مسئولً عن منطقة محددة يستطيع فيها أن يخدم منطقة مركزة، تكون خدمته فيها قوية ومثمرة.. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وقد كان.. في القديم كان المطارنة مسئولين عن إيبارشيات واسعة جدًا، لا يقوي المطران علي رعايتها كلها. أما الآن فكل أسقف يستطيع أن يزور كل مدينة وكل قرية فيإيبارشيته، ويرعي الجميع..

 ونفس الوضع نقوله بالنسبة إلى كل كاهن في كنيسته..

لم يكن صالحًا أن يكون أب كاهن وحده في كنيسته، يقوم برعاية عدة ألاف، يبلغون في بضع الكنائس خمسة عشر ألفًا أو أكثر. فكان لابد منسيامة كهنة جدد في الكنائس تتوزع عليهم الخدمة، فيقومون بها بجدية، يهتمون بكل فرد ويقودونه إلى حياة التوبة والنقاوة.

فليست قوة الخدمة في عدد التابعين لك، وإنما في عدد الذين توصلهم إلى معرفة الله ومحبته

بعض الطوائف قد يكثر عدد الحاضرين في اجتماعاتها، بسبب المعونات المادية التي تقدم لهم، بينما لا يكون الإيمان ثابتًا في قلوبهم، فإن توقفت المعونات، توقف الحضور إلى الكنيسة ‍‍‍!! فهل ندعو هذه خدمة؟!.

وهناك كنائس تهتم بالأنشطة وليس بالروحيات!!

فتجد في الكنيسة المشغل والمعرض لعمل السيدات، وتجد النادي للشباب، وبيتًا للمغتربين. وكذلك تجد بيتًا للمسنين، مع عدد آخر من المشروعات، دون الاهتمام بالحياة الروحية. ولكن حسنًا قال الرب ” وكان ينبغي أن تفعلوا هذه ولا تتركوا تلك (مت 23: 23).

أما الخدمة الروحية، فهي الخدمة القوية في تأثيرها.

بطرس الرسول بعظة واحدة في يوم الخمسين، قد جذب إلى الإيمان ثلاثة آلاف نفس (أع 2). وهذه القوة التي تميزت بها العظة، كان سببها أن قائلها كان ممتلئًا بالروح القدس.

لم يقل الكتاب أن الناس تابوا نتيجة لعظته، وإنما نخسوا في قلوبهم وقبلوا الإيمان، واعتمدوا. بينما وعاظ كثيرين يلقون آلاف العظات، ولا يدخل في الإيمان شخص واحد..

بولس الرسول -وهو أسير- حينما كان يتكلم عن البر والدينونة والتعفف، ارتعب فيلكس الوالي (أع 24: 25).

السيد المسيح قال كلمة واحدة، جعلت سامعها يترك كل شيء ويتبعه.

كان متى جالسًا في مكان الجباية، فقال له السيد “اتبعني”. فترك مكان الجباية وتبعه. ولم يقل له محاضرة في التكريس، وإنما كلمة واحدة، ولكنها قوية في تأثيرها وفي روحها جعلته يترك كل شيء ويتبعه.. وهكذا حينما قال لسمعان بطرس وأندراوس أخيه ” هلما ورائي، فأجعلكما صيادي الناس .

المهم هو عمق الكلمة، وقوة تأثيرها.

وليس عدد العظات أو عدد المؤلفات، أو كثرة الأنشطة أو كثرة المؤسسات.. هذه هي الخدمة التي نريدها: أشخاص لهم قوة الروح، يكرزون كرازة لها قوة التأثير، وكلمتهم لا ترجع إليهم فارغة، بل تأتى بثمر، وثمر كثير..

عناصر القوة في الخدمة

 ما هي إذن عناصر القوة في الخدمة؟

هي مقدار ما في الخدمة من عمق، ومن حب وبذل. وأيضًا ما فيها من تأثير، ومن قدرة على تغيير النفوس إلى أفضل.

ومن الأمثلة على القوة في العمل، ذهاب أبينا إبراهيم ليقدم ابنه الوحيد إسحق محرقة حسب أمر الرب له..

لاشك أن أبانا إبراهيم قدم ذبائح لا نستطيع أن نحصيها، في كل مكان يذهب إليه. ولكن هذه الوحيدة هي التي لا يمكن أن تنسى وسط جميع ذبائحه. مع أنه كانت بمجرد النية ولم تتم!!

كانت هذه الذبيحة (بالنية) أعظم من جميع ذبائحه التي تمت فعلًا.

بل كانت أعظم من جميع الذبائح التي قدمها الناي طوال عصور التاريخ. وقد سجلها الكتاب، كدرس للأجيال، لأنها تحمل قوة لا يعبر عنها في الحب والبذل، وفي الطاعة والإيمان، وفي ضبط النفس.. عمل آخر له قوته، هو تقديم الأرملة للفلسين. إنه مبلغ بسيط، ولكنه كان من أ‘وازها. لذلك امتدحها الرب، واعتبر إنها قد أعطت أكثر من الجميع. القوة هنا هي نوعية العمل، وليس في كميته.. لأنها أعطت من أعوازها، وهي محتاجة وفقيرة وأرملة.

و يمكن أن توجد للأرملة التي أعطت الفلسين، أمثلة في الخدمة.

منها ذلك الخادم، الذي لا يمكن أن يعتذر عن الخدمة، وهو في أيام الامتحانات، مع احتياجه لكل دقيقة للمذاكرة والمراجعة والاستعداد للامتحانات.. ولكنه يذهب إلي الخدمة. ولا ينسي له الله ذلك أبدًا. لأن الوقت الذي أعطاه للخدمة، قد أعطاه من أعوازه.. ومثله الذي يذهب إليالخدمة. وهو مريض، ومحتاج إلي الراحة. ولكنه يبذل من هذه الراحة التي هي من أعوازه، ويقدمها للخدمة. وبالمثل الموظف الفقير المحتاج، الذي كل مرتبه لا يكفيه. ومع ذلك يقدم العشور، وربما يكون مديونًا وقتذاك.

إن العطاء من الأعواز، يدل علي حب وإيمان:

حب للذين يعطيهم، ولله الذي أعطي الوصية. وإيمان بأن الله لابد أن يعوض، ويبارك القليل. كما يدل هذا العطاء أيضًا علي الاهتمام بالغير أكثر من الذات، ففيه إذن إنكار للذات. وهكذا فعلت أرمله صرفة صيدا، حينما قدمت قليل الدقيق والزيت الذي عندها لإيليا النبي، أثناء المجاعة..

قوة العمل تظهر أيضًا في قصة داود أمام جليات..

إن حروبًا كثيرة عرفها العالم وسجلها التاريخ. ولكن لا يوجد فيها كلها ما يماثل جرب داود مع جليات.. كان داود طفلًا بالقياس لذلك الجبار. لم تكن له قوته ولا أسلحته، ولا خبرته في الحروب، ذلك الذي خاف منه كل الجيش..

و لكن قوة داود كانت في غيرته وفي إيمانه..

غيرته في قوله “من هو هذا الأغلف حتى يعير شعب الله؟! “وأيضًا في قوله ” أنا أذهب وأحاربه .. أما إيمانه ففي قوله لذلك الجبار ” اليوم يحبسك الرب في يدي ، ” أنت تأتيني بسيف ورمح، وأنا آتيك باسم رب الجنود.. ” من أجل قوة داود – في غيرته وإيمانه – هتفت النسوة قائلات ” ضرب شاول ألوفه، وداود ربواته .. فما هي تلك الربوات ؟

كانت هذه المرة الوحيدة في حروب داود تساوي ربوات..

كم من حرب خاضها داود، وكم كانت له من انتصارات، فيما بعد وهو قائد عظيم. ولكنها كلها لا تقاس بتلك الحصاة الملساء التي ارتكزت بإيمانه في رأس جليات.. كانت تساوي ربوات، غذ كان لها عمق معين، في غيرته التي لم تقبل تعييرات ذلك الجبار. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). كذلك كان هناك عمق آخر في عدم خوفه، وعدم رهبته للموقف، بل تقدمه للصفوفبمقلاعه وحصوته بكل إيمان أن الله سيدفع الجبار إلي يده، إلي يده الصغيرة الملساء مثل حصاته..! حقًا هذه قوة.. ليست مجرد العمل، بل القوة التي فيه، الإيمان الذي فيه..

قوة الخدمة قد تظهر أيضًا في نتائجها:

مثل قوة القديس أثناسيوس الرسولي في الدفاع عن الإيمان. وكيف أنه استطاع أن يحول دفة الموقف كله. وكما قال عنه القديس جيروم: ” مر وقت كاد فيه العالم كله أن يصبح أريوسيًا، لولا أثناسيوس .. وبالمثل نقول عن قوة حياة القديس أنطونيوس الكبير، التي جذبت بتأثيرها الكثيرين، حتى انتشرت تلك الحياة الملائكية في العالم أجمع..

هناك خدمة قوية، ولا يلاحظها الناس، لأنها في الخفاء.

قد يكون هناك اجتماع ناجح، وتلقي فيه عظة قوية لها تأثير عميق. وربما يكون سبب هذا النجاح كله، اجتماع صلاة من اجل الاجتماع. ركب منحنية أمام الله تصلي من أجل أن يمنح الله كلمة للواعظ واستجابة من المستمعين.. هؤلاء المصلون لا يراهم أحد، ولكنهم يمثلون قوة في الخفاء..

الناس يعجبون بالنجف الساطع الضياء، ولا يرون الموتور المولد للكهرباء !

و يمتدحون الضياء الذي يرونه، ولا يذكرون إطلاقًا المولد الكهربائي الذي هو سبب القوة. لكنه يعمل في الخفاء. إنها خدمة الأساس المخفي وليس البناء الظاهر. وكم من خدمات قوية جدًا تعمل في الخفاء، ولا يراها أحد، مثل إرجاع مرتد إلي الإيمان، أو هداية فتاة منحلة، أو مصالحة أسرة متخاصمة. إنها خدمة في الخفاء، ولكنها قوية. وقد تكون وراءها خدمة أخري قوية، وفي الخفاء. وهي قداس مرفوع لأجلها، وله قوته..

هناك نوع آخر من الخدمة القوية غير الظاهرة وهي الخدمة الفردية.

الناس دائمًا يمتدحون الاجتماعات العامة القوية. ونادرًا ما يلتفتون إلي الخدمة الفردية التي قد تكون أكثر وقعًا وتأثيرًا وتأتي بنتيجة قوية في القيادة إلي الملكوت. وتدخل فيها أيضًا خدمة الافتقاد، والجلسة الروحية بين أحد الآباء الكهنة وأسرة من رعيته. تري لو خيرت بين إلقاء عظة في اجتماع يحضره المئات، وخدمة فردية لشاب ضال، أيهما تختار؟ لعازر الدمشقي سافر في خدمة هامة لاختيار زوجة لإسحق أصبحت جدة للمسيح. وقد يسر الله طريقه. ولاشك أن أبانا إبراهيم كان يصلي بحرارة من أجل ذلك. وهناك نسأل:

أكان نجاح المهمة بسبب صلاة أبينا إبراهيم، أم بإخلاص لعازر الدمشقي؟

قطعًا كان النجاح بكليهما: بالعمل الظاهر للعازر في أمانته ومحبته لسيده، وفي العمل المخفي لإبراهيم. وقبل كل شيء لنعمة الله الذي “يسر طريقه، تتحد قوة العمل وقوة الصلاة.

هناك نوع آخر من الخدمة القوية، وهو خدمة القدوة والبركة.

خدمة القدوة هي خدمة صامته، ولكنها ذات تأثير أقوي من خدمة الكلمة، لأنه تقدم النموذج العملي للحياة الروحية، وهو بلا شك أقوي من مجرد الكلام عن تلك الحياة.. أما خدمة البركة، فتتجلي في حياة أولئك الذين كانوا بركة في أجيالهم، وقال الرب أثناء شفاعة إبراهيم في مدينة سادوم  إن وجد عشرة (أبرار)، لا أهلك المدينة من أجل العشرة (تك 18). لم يقل إن صلي هؤلاء العشرة من أجل المدينة، وإنما إن وجدوا، مجرد وجودهم هو خدمة كبيرة لأجل المدينة.. لا يهلكهم الرب لأجلهم.. كان إيليا بركة في بيت أرملة صرفة صيدا. وكان أليشع بركة في بيت. وكان يوسف الصديق بركة في أرض مصر. بل كان نوح بركة للعالم كله. من اجله استبقي الله حياة للبشر استمرت علي الأرض.

هذا المحتوى منقول من : موقع الأنبا تكلا

Share this post